من أمام نادي «المقاولون العرب» في منطقة الجبل الأصفر، (شرق القاهرة)، بدأت رحلتي، نحو أعماق الدلتا، حيث يسكن نجم فريق ليفربول الإنجليزي، ومنتخب مصر الأول، محمد صلاح... لمحاكاة رحلته اليومية، التي كان يقطعها عقب انتهاء تدريبات ومباريات فريق «المقاولون»، قبل رحلة احترافه الناجحة في القارة العجوز. وعلى الرغم من إمكانية السفر إلى قرية صلاح في سيارة خاصة، فإن «الشرق الأوسط» سعت إلى تتبع خطواته عن قرب سالكة ذات خط سيره اليومي من القاهرة إلى مسقط رأسه (قرية نجريج) والعكس. ورصدت محطات السفر المتعددة، والمحفوفة بالإجهاد، في وقت كان نجم مصر البارز، طفلا عاديا، رقيق الحال.
*بدء الرحلة
ركبت الـ«ميكروباص»، بالقرب من النادي، متوجها إلى ميدان رمسيس، في وسط القاهرة. ولدى وصولي، كان هناك مناد يزعق في شارع الجلاء بصوت أجش: «طنطا... اللي رايح طنطا». امتلاء الميكروباص بـ14 راكبا، لم يستغرق طويلا، لكنّ الخروج من شوارع القاهرة المكتظة بالسيارات، استغرق طويلاً. قطعت السيارة نحو 100 كيلومتر، عبر طريق لا يخلو من العثرات و«المطبات» الاصطناعية، والتقاطعات، وصلت أخيرا إلى محطة «المعرض»، في طنطا، بمحافظة الغربية، (شمال القاهرة) بعد ساعتين كاملتين.
في زاوية متسعة من هذا الميدان المزدحم الذي يوجد به معرض كبير لعرض منتجات شركة غزل المحلة للنسيج والملابس الجاهزة، كانت تقف سيارات أجرة، لنقل الركاب إلى مدينة بسيون، انطلقت السيارة بعد 10 دقائق، وسارت من طريق (القاهرة - الإسكندرية الزراعي)، قبل أن تنحرف يمينا نحو مدينة بسيون التي وصلت إليها بعد نحو 40 دقيقة. وصلت السيارة إلى محطتها الأخيرة، في منطقة «التنظيم» (مدخل مدينة بسيون). بعدها كان علي أن أستقل سيارة أجرة صغيرة، للوصول إلى موقف قرية «نجريج» داخل المدينة. سيارات الأجرة «السوزوكي» الصغيرة، الخاصة بقرية نجريج، تحمل 7 ركاب فقط، وتبعد القرية عن المدينة نحو 8 كيلومترات.
*قرية نجريج
وأخيراً وصلت قرية نجريج التي لا يميزها عن غيرها من القرى المجاورة أي شيء، بل تميزت بعض القرى عنها بوجود مقرات الوحدات المحلية والمجالس القروية بها، وبوجود بوابات ولافتات تظهر اسم تلك القرى، لكن نجريج لا لافتة واحدة تظهر اسمها، في مدخل القرية، ولم أعرفها إلّا بعد سؤال سائق السيارة الأجرة.
شارع القرية الرئيسي، عبارة عن طريق إسفلتي ممهد، يخترق أراضي مزروعة بالبرسيم والقمح في بدايته، ثم يمر من بين البيوت حتى يصل إلى أعماق القرية، لمسافة تصل إلى نحو 1000 متر، بعد السير على الأقدام لمسافة تصل إلى 500 متر تقريبا، انحرفت يمينا، ثم يسارا، حتى وصلت أخيرا، إلى الشارع الذي يقطن به محمد صلاح وعائلته، في رحلة طويلة ومرهقة جدا، دامت نحو 4 ساعات، بدأت من نادي «المقاولون العرب» وحتى منزل صلاح في نجريج، الرحلة كانت شاقة جداً، لكنّها كانت ملهمة، كما كانت بالنسبة للطفل محمد صلاح الذي كان يداوم على تكرارها شبه يومي، ذهابا إيابا، كي لا يبتعد عن أسرته.
منزل محمد صلاح، لا يميزه أي شيء عن بقية المنازل الملتصقة به، فهو مكون من 3 طوابق، وواجهته الخارجية غير مطلية بأي طلاء أو دهان خارجي، باستثناء البلكونات، بوابته الحديدية مغلقة، وكاراج السيارة مغلق أيضا، سلالم المنزل المجاور له، يجلس عليها الجيران في أجواء يغلب عليها الاسترخاء والألفة، هي عادتهم في الفترة المسائية إذا كان الجو صحوا ومعتدلا.
اعتاد جيران صلاح على كاميرات وسائل الإعلام المحلية والأجنبية، ولم يعد يقلقهم أو يبهرهم وجود الصحافيين أو المراسلين المصريين، أو الأجانب في شارعهم الذي لا يميزه عن بقية شوارع آلاف القرى المصرية الأخرى، سوى أنّه شهد ميلاد وبدايات موهبة «مو صلاح».
ملامح وجوه أطفال وشباب ورجال القرية، تشبه قسمات وجه اللاعب الدولي، ابن الريف المصري، وطمي النيل. فهو قد مرّ من هنا، ولعب في شوارع تلك القرية وأحرز بها أهدافا بقدميه اليسرى واليمنى، واكتسب خبرات من لاعبي مركز الشباب الهواة.
تعليمات لاعب المنتخب المصري، لأعضاء أسرته كانت صارمة جداً: «لا تظهروا في وسائل الإعلام نهائيا»، ووفقا لشخصيات مقربة من عائلته، فإنّ صلاح يخشى من ملاحقة وسائل الإعلام لأفراد أسرته والخوض في تفاصيل حياتها الخاصة، وهو ما أشاد به بعض الإعلاميين، معتبرين ذلك حرية شخصية لا بدّ من احترامها، فيما انتقده آخرون بحجة، حق الناس في معرفة كل تفاصيل حياة النجم المصري البارز.
*مشروعات صلاح الخيرية
خلال السير في شوارع نجريج الهادئة والضيقة والملتوية، لم أشعر أنّني في قرية صلاح، ولا توجد صورة للاعب معلقة في واجهته الأمامية، وشوارع وبيوت القرية عادية لا يوجد ما يميزها، لكن ثمة مشروعات كبيرة، يجري العمل فيها على قدم وساق داخل القرية، سوف تغير تلك النظرة تماما، فبجوار الوحدة الصحية يجري إنشاء أساسات بناء معهد الفتيات الأزهري الإعدادي والثانوي الذي تكفّل صلاح ببنائه لخدمة أبناء قريته، بتكلفة إجمالية تصل إلى 8 ملايين جنيه وفقا لتقديرات ماهر شتية، عمدة القرية. كما تم الانتهاء من إنشاء منفذ ثابت لبيع منتجات «جهاز الخدمة الوطنية» الحكومي داخل القرية، ومبنى خاص بخدمات الإسعاف.
بعد تنسيق تليفوني، رافقني حسن بكر، باحث اجتماعي في «مؤسسة محمد صلاح الخيرية»، وهو رجل أربعيني، قمحي الوجه، ذو ملامح ريفية، يشبه المئات من سكان القرية. اصطحبني بكر، وتوجهنا نحو المقر المؤقت للمؤسسة... خلال ذلك، نشبت مشاجرة وصلت إلى حد الاشتباك بالأيدي، بين طفلين صغيرين لا يتعديان الأربع سنوات، بعد خروجهما للتو من رياض الأطفال، تدخّل بكر، لفض الاشتباك، وأبعدهما عن الشارع، قبل أن نسلك سويا حارة ضيقة متفرعة من أحد الشوارع الرئيسة، في وسط القرية حيث توجد مكتبة أدوات مدرسية، يملكها الحاج محمد البهنسي. يتخذ الرجل من هذه المكتبة الصغيرة، مقرا مؤقتا لمؤسسة محمد صلاح الخيرية التي يديرها بالتعاون مع مجلس أمناء مكون من والد اللاعب محمد صلاح وخاله وشقيقه.
على الرغم من غلق مكتبته وباب بيته، فقد كرّر مرافقي بكر، النداء على البهنسي، أكثر من مرة، وبصوت مرتفع، ليستيقظ من قيلولته، تحت وطأة الإلحاح، وخرج إلينا، وفتح مكتبته الصغيرة، ولم يبد أي إيماءة بالانزعاج أو القلق من إصرارنا على إيقاظه. مدير مؤسسة صلاح الخيرية، ملّ من كثرة الظهور في وسائل الإعلام المحلية والأجنبية بالآونة الأخيرة، ولم يعد يهتم ببريقها مثل سكان الريف الآخرين، فقد اعتاد الوجود والظهور فيها باستمرار. تزيد اللحية البيضاء، من وقار الرجل الذي يناهز الستين من عمره، بينما أكسبته الطاقية البيضاء التي يغطّي بها شعره نوعا من الحكمة، أرجع ظهره للخلف، بعد الانتهاء من بيع لوحات ورقية للرسم، لطالبتين من القرية، وقال بنبرة هادئة: «لا أدري سبب اهتمام وسائل الإعلام بتفاصيل عمل المؤسسة، فهذا عمل خيري، يجب أن يكون سراً، للإثابة عليه»، طلبت منه التحدث عن فكرة هذه المؤسسة بشكل عام، كما يريد هو، فقال: «الكابتن محمد، هو صاحب فكرة إنشاء المؤسسة وجاءته في شهر رمضان الماضي، عندما قضى في القرية أياما قليلة، ولاحظ كثرة تردد بعض الأهالي والمحتاجين على منزله، وكان يستجيب هو ووالده لتلك الطلبات، بشكل عشوائي، ففضل أن يقنن هذا العمل، لتصل المساعدات إلى مستحقيها، بجانب محاولته إبعاد السائلين عن سكن أسرته، فقط لأنّه سكن، ومقصد الراحة والهدوء، وبالفعل قمنا بعمل حصر للمحتاجين في قريتنا، في البداية، لأنّنا على علم بحال سكانها». وأضاف أنّه نحو 400 أسرة من القرية، من الأرامل والأيتام، والمرضى يتلقون المساعدة شهريا، بجانب بعض حالات الزواج، وبعض اللاجئين السوريين المقيمين في محافظة الغربية.
إدارة البهنسي للمؤسسة خلال الشهور الماضية، جعلته يوقن بأنّ «هناك عددا كبيرا من المواطنين المحتاجين للمساعدة»، مثمّنا «تجربة ابن قريته محمد صلاح، واعتبر أنّ التوفيق الذي يلازم اللاعب خلال الآونة الأخيرة مع فريقه ليفربول، ينبع من قربه من الله، والتزامه الإنساني والأخلاقي، بجانب دعوات الملايين المخلصين من المصريين».
يتابع «البهنسي» قائلا: نجلي محمود، صديق مقرب جدا من اللاعب المصري الدولي، وهو ممنوع أيضا بتعليمات من صلاح من الظهور في وسائل الإعلام، ويتواصل معه تليفونيا باستمرار، ويناقشه في تفاصيل أدائه أمام الفرق الإنجليزية والأوروبية.
وعن صدى الأغنية الجديدة التي دشنها جمهور ليفربول الإنجليزي لصلاح والتي أشار فيها المشجعون إلى إمكانية اعتناقهم الدين الإسلامي في حال سجل اللاعب المصري المزيد من الأهداف، وتقول كلماتها: «إذا كان جيدا بما فيه الكفاية لي، إذا سجل المزيد من الأهداف، سأصبح مسلما مثله»، قال البهنسي، بعد الانتهاء من صلاة الفجر، يوميا، أتصفّح مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية، وصدفة قرأت خبر أغنية جماهير ليفربول الجديدة، لابننا محمد صلاح، فبكيت على الفور، لأنّ محمد المسلم، لا يزال يحتفظ بأخلاق قريتنا نجريج، ويجبر الجميع على احترامه، وحب كل ما يقوم به مثل سجوده في الملعب بعد تسجيل الأهداف». وأوضح: «محمد أعطى درساً للأوروبيين وهو أنّ الإسلام يحث على الإخلاص والاجتهاد في العمل، فنجاح محمد لم يأت صدفة، لأن النجاح يحتاج إلى كفاح، وهو ما فعله محمد صلاح».
عمدة القرية يسرد قصة صلاح
على مقربة من منزل مدير مؤسسة نجم ليفربول الخيرية، يقع منزل عمدة القرية، ماهر أنور شتية، كان ينتظرني، في شرفة منزله بالطابق الأرضي التي تطل على الشارع مباشرة. وبعد منع صلاح أسرته من الظهور في وسائل الإعلام، تحمل شتية، مسؤولية الظهور للإجابة عن أسئلة الصحافيين مع بعض الأهالي من خارج أسرة محمد صلاح.
قبل أن يسرد شتية قصة نجاح صلاح منذ طفولته وحتى انتقاله إلى صفوف فريق ليفربول الإنجليزي، اعتدل في جلسته، وأعاد ظهره للخلف، وتحدث بنبرة ممزوجة بالفخر والحماس، قائلا: «محمد كان طفلا عاديا جدا، مثل كل أطفال القرية، ورث حب لعب كرة القدم عن أبيه وأعمامه، إذ كانوا يلعبون في صفوف فريق مركز شباب القرية، في فترة الثمانينات والتسعينات». لافتا أن «والد صلاح، لاحظ موهبة ابنه، وألحقه بفريق اتحاد بسيون، وعمره نحو 12 سنة، وذات يوم جاء رضا الملاح، (كشّاف كرة قدم) إلى قريتنا لمتابعة طفل آخر بالقرية يدعى شريف، ليلحقه بفريق صغير، تابع لنادي (المقاولون العرب)، بمدينة طنطا، وطلب الكشّاف من مجموعة الأطفال عمل (تقسيمة) للوقوف على مستوى شريف، لكنّه أعجب جدا بأداء محمد صلاح، لأنّه كان لاعبا أيسر، ويمتاز بمهارات فائقة، وطلب منه اللعب في فرع نادي (المقاولون) بطنطا، قبل الانتقال إلى اللعب في صفوف ناشئي النادي بالفريق الأم في القاهرة، ثم الانتقال للّعب في الفريق الأول في الدوري الممتاز، ليصبح صلاح معروفا، لدى الجماهير المصرية قبل احترافه في فريق بازل السويسري، واستكمال مشواره الطويل الناجح في عالم كرة القدم العالمية».
*زواج محمد صلاح
وفق شتية فإنّ صلاح لا يزال شديد الارتباط بقريته، وقد أصر على الزواج من إحدى فتياتها، واحتفل بليلة الحنة (اليوم السابق لحفل الزفاف)، هنا، وعلى الرغم من إقامة حفل الزفاف في القاهرة، إلى أنّه عاد إلى قريته لقضاء شهر العسل فيها».
يضيف ماهر قائلا: «صلاح يتجول في القرية مثل أي شاب، ويطرق بيوت الأهالي للسلام عليهم في المناسبات، حال وجوده، كما جدّد عادة التزاور بين الأهالي في الأعياد، ولقد زارني في إجازته الأخيرة في شهر رمضان الماضي، بعد إصابتي في حادث سيارة». وتابع: «كانت أكثر أمانينا، أن يلعب صلاح في الدوري المصري الممتاز، لكنّه فاق كل توقعاتنا فلعب في أكبر أندية العالم، وأصبح أفضل لاعب في أفريقيا». يصمت عمدة نجريج قليلا قبل أن يكمل: «نستطيع أن نقول إن هناك 3 مقاه جديدة، افتُتحت بعد شهرة صلاح، لاستيعاب شباب القرية العاشقين لمتابعة مبارياته». ويشير إلى مفارقة طريفة وهي أن محمد صلاح، ابن نجريج الذي كان سبباً رئيسيا لوصول مصر إلى كأس العالم، ليس أول أبناء القرية في زيارة روسيا، فقد سبقه إلى هناك رجل من نفس قريته، وهو المؤرخ العلامة محمد عياد الطنطاوي النجريدي المولود في 1810 والذي ذهب إلى روسيا سنة 1840. في عهد حاكم مصر الوالي محمد علي باشا، بعدما دعاه قيصر روسيا ليعلم أبناء روسيا اللغة العربية، في مدينة بطرسبورغ، وعمل في وزارة الخارجية الروسية معلما للغة العربية للعاملين بها ثم أصبح مدرسا للغة العربية بجامعة بطرسبورغ الروسية في سنة 1847. وله تمثال في الجامعة الروسية، وتمثال آخر في قرية نجريج دشنه السفير الروسي لدى مصر قبل عدة سنوات.
انصرفت من بيت العمدة، وذهبت إلى معهد فتيات نجريج الأزهري، (تحت التأسيس) بصحبة حسن بكر الباحث الاجتماعي في مؤسسة صلاح الخيرية، وكان يجري العمل في إنشاء أساسات المعهد على قدم وساق، وعند التوجه إلى مركز شباب القرية، الذي غُيّر اسمه ليكون «مركز شباب محمد صلاح»، سألت مرافقي، ما هو أكثر شيء تحبه في صلاح، فأجاب بسرعة «تواضعه».
ملعب كرة القدم في مركز شباب القرية قانوني، من حيث المساحة. والمبنى الرئيسي مزين بلافتة كبيرة تحمل اسم لاعب ليفربول. كان بعض الأطفال يتدربون على لعب رياضة «الكاراتيه» داخل إحدى القاعات. هممت بالانصراف وودعت بكر، وعدت من حيث أتيت إلى القاهرة لتستغرق رحلة الإياب نحو 4 ساعات، لا تخلو من الإجهاد والتعب، وهي نفس المدة والمسافة التي كان يقطعها نجم المنتخب المصري يوميا، وكانت على الرغم من مشقتها تزيده إصراراً على النجاح وتحقيق حلمه.
محمد صلاح مرّ من هنا
«الشرق الأوسط» ترصد محطات نجم {ليفربول} المصري في مسقط رأسه الذي تحول هدفاً لوسائل الإعلام المحلية والعالمية
محمد صلاح مرّ من هنا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة