كان الكاتب البريطاني سامويل جونسون على حق بمقولته الشهيرة: «إذا تعبت من لندن تكون قد تعبت من الحياة»، ولا يمكن فهم هذا القول إلا إذا عشت في مدينة مثل لندن النابضة التي تجد فيها ما يهم كل امرئ وما يروي عطشه الثقافي أو الفني أو غيره.
وأجمل ما في لندن هو أنها مدينة تزخر بالكثير، ولكنها لا تظهر كل ما لديها لتظل ساحرة وتجعل الزائر أو المقيم يتساءل: ما هذا المبنى؟ ومن عاش هنا؟ وما هذا المعلم؟
وبغض النظر عن السنين التي عشتها في لندن أو عدد الزيارات للعاصمة ستفاجأ بشيء قديم «جديد» بالنسبة لك تجاهلته من قبل وقد تكون قد مررت من قربه أكثر من مرة دون معرفة قصته وحكايته وسبب وجوده، تماماً مثل تلك الأكواخ الخضراء المصنوعة من الخشب المنتشرة في لندن في أماكن معينة مثل منطقة «بلغريفيا» و«كينزينغتون».
مررت بالقرب من تلك الأكواخ أكثر من مرة إلى أن سألت عن قصتها فأجابتني صديقة آيرلندية بأنها تعرف باسم أكواخ سائقي سيارات الأجرة السوداء الرسمية في لندن، وكانت في الماضي مخصصة لتقديم الطعام الساخن والقهوة والشاي لهم، أما اليوم وبعد أن تبقى منها 13 كوخا أو مأوى كما هي الترجمة الحرفية Cabmen Shelters فهي مفتوحة أمام العموم، ولا يمكن لأي من عمالقة بيع القهوة مثل «ستارباكس» أو «كافيه نيرو» منافستها، لأن كوب القهوة بجنية إسترليني واحد فقط لا غير.
لمحة تاريخية
تاريخ تلك الأكواخ لافت وجميل، فهي بنيت في لندن عام 1875 من قبل صندوق رابطة السائقين، وفي حينها كانت تقدم المأكل والمشرب لسائقي الحناطير، وكان يطلق عليها اسم «هانسوم كابس»، وبعدها ظهرت السيارات وتحول الاسم إلى «هاكني كارجز» وهذه التسمية تساوي حالياً ما يعرف بسيارات الأجرة السوداء الشهيرة في لندن.
الفكرة جاءت لأن القانون كان يمنع السائقين ترك عرباتهم للحصول على طعام ساخن أو شراب، وبسبب البرد القارس كان لا بد من تأمين الأكل الساخن للسائقين الذين كانوا يقضون وقتاً طويلاً على الطرقات، كما أنه كان من الصعب التوجه إلى حانة أو مقهى لأنه كان يتعين عليهم دفع المال لأحدهم لحراسة الحنطور من السرقة، في حين يتوجهون إلى الداخل لتناول الطعام، كما أن السبب الثاني لولادة الفكرة، لمنع السائقين من تناول الكحول المتواجدة في الحانات أثناء ساعات العمل.
ومن هنا جاءت فكرة المأوى أو الأكواخ التي فرضت شرطة لندن تصميمها، والتي بقيت على حالها إلى يومنا هذا، بحيث كان من الضروري الالتزام بحجم الكوخ كي لا يتعدى علو الحنطور والخيل.
أول كوخ بني في شمال لندن، تحديدا في شارع «أكاشيا» في منطقة «سانت جونز وود» بالقرب من منزل جورج أرمسترونغ. وبني ما بين عامي 1875 و1914 واحد وستين كوخا في عدة أماكن من لندن، وكان يعمل في كل منها شخص واحد مهمته بيع الشراب والطعام الساخن مع إمكانية تسخين المأكولات التي كان يجلبها السائق معه، وهذا الشخص يعمل من دون أي مقابل ويعتمد فقط على بيع المأكولات في الكوخ.
الكوخ مشهور بلونه الأخضر المستوحى من قصر باكينغهام (لم يكن يسمح بطليه بأي لون آخر)، والسقف مدبب على شكل مدفأة النار في الداخل، يوجد فيه طاولة مستطيلة ومقاعد خشبية يجلس عليها السائقون للأكل وقراءة الصحف والكتب التي تقدمها بعض دور النشر كهدية مجانية، ويوجد أيضا مطبخ صغير جدا يؤمن أطباقا محدودة، ويتسع كل كوخ لـ13 سائقا، وكانت ولا تزال تعلق لافتة على الحائط تظهر ما هو مسموح وما هو محجوب، حيث يمنع استعمال الألفاظ النابية والكلمات البذيئة، وهذا القانون لا يزال ساريا في الأكواخ الـ13 المتبقية، والتي أصبحت اليوم مصنفة في الدرجة الثانية للمباني التابعة للإرث الوطني في بريطانيا، وهذا يعني أن وجود تلك الأكواخ سيكون أزليا، ويجب المحافظة عليها والقيام بصيانتها بشكل مستمر.
المعروف أن إيرل شافتسبيري كان أول من جاءته هذه الفكرة بمشاركة أعيان لندن الأثرياء.
وبعد أن تضاءل عدد الأكواخ وانخفض من 61 إلى 13 وتحولها إلى معلم تاريخي وإرث ثقافي، كان لا بد من فتح أبوابها أمام العموم مع المحافظة على هدفها الأول وهو استقبال سائقي التاكسي وتأمين الاستراحة لهم خلال ساعات العمل، واليوم يقصد كثيرون لندن لتناول فنجان من القهوة بسعر زهيد جدا لا يتعدى الجنيه الواحد، وهذا ما يسعى إليه الصندوق الذي يعنى بدعم تلك الأكواخ والمحافظة على وجودها.
فكل الطعام والشراب الذي يقدم في الأكواخ يباع بأسعار مناسبة جدا، وعندما تقصدها ترى عددا من سائقي الأجرة الذين يحافظون على هذا التقليد الإنجليزي اللافت، صونا لاستمراريتها ودعمها ومساندة الصندوق المالي الذي يعتبر من بين أقدم الرابطات المالية التي تعنى بدعم المعالم التراثية في لندن.
عناوين الأكواخ الـ13 المتبقية في لندن
1 - تشيلسي امبنكمانت.
2 - امبنكمانت بلايس.
3 - غروفنر غاردنز.
4 - هانوفر سكوير.
5 - كينزينغتون بارك رود.
6 - كينزينغتون رود.
7 - بونت ستريت.
8 - راسيل سكوير.
9 - سانت جورجز سكوير.
10 - تيمبل بلايس.
11 - ثيرلو بلايس (مقابل متحف فكتوريا وألبرت في كينزينغتون).
12 - ووريك أفينيو.
13 - ولينغتون بلايس
(شمال لندن قرب ملعب لوردز للكريكيت).