كيف نجحت الدبلوماسية الأوروبية في تطويع إيران؟

سياسة ذكية ذات وجهين

مفاعل بوشهر النووي الإيراني - غلاف الكتاب
مفاعل بوشهر النووي الإيراني - غلاف الكتاب
TT

كيف نجحت الدبلوماسية الأوروبية في تطويع إيران؟

مفاعل بوشهر النووي الإيراني - غلاف الكتاب
مفاعل بوشهر النووي الإيراني - غلاف الكتاب

يبدو كتاب «الاتحاد الأوروبي في مواجهة إيران النووية» ذا أهمية خاصة في ظل الأوضاع الإيرانية الراهنة التي تشهد اندلاع موجة عارمة من المظاهرات تناهض سياسات الفقر والبطالة، وتطالب بتغيير النظام وإرساء دعائم حياة ديمقراطية سليمة. وقد صدر الكتاب حديثاً عن مطبعة جامعة لوفان الكاثوليكية ببلجيكا، لمؤلفته أستريد فييود «Astrid Viaud»، وهي باحثة دكتوراه في معهد العلوم السياسية بالجامعة.
ويسعى الكتاب لفك شفرة البرنامج النووي الإيراني، وكذلك إلقاء الضوء على دور الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمة والعمل على عدم حيازة إيران قنبلة نووية ولا سيما في ضوء حالة عدم ثقة الغرب بالنظام الإيراني، كما تلقي المؤلفة الضوء على البُعد الخاص بالتنسيق الاحترافي للسياسة الخارجية للدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي الذي لعب دوراً فاعلاً في هذا الملف تنفيذاً لرغبة وإرادة أعضائه الرامية إلى عدم حيازة نظام طهران لسلاح نووي.
تكشف المؤلفة النقاب عن المناورات التي قادتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا للوصول إلى توافق أوروبي حيال هذا الملف، وهي مناورات بدأت أولا بالتوافق بين الدول الثلاث حول موقف موحد حيال الملف النووي الإيراني ثم عرضه بعد ذلك على الممثل الأعلى للسياسية الخارجية للاتحاد الأوروبي، ثم اطلاع الدول الأعضاء بالاتحاد على الموقف حيال هذا الملف الشائك، وكل ذلك خارج أروقة المجلس الأوروبي، إيماناً منها بصعوبة التوصل لاتفاق أوروبي حول المفاوضات الأوروبية مع نظام إيران داخل أروقة المؤسسات الأوروبية، ولذلك فقد اتفقت فيما بينها حول آليات الخروج بإطار أوروبي عام رغبة منها في دفع عملية التفاوض حول هذا الملف الشائك.
تسوق المؤلفة عبر صفحات الكتاب رؤية الاتحاد الأوروبي حيال الملف النووي الإيراني وهي رؤية تتأسس على تقديم تصور للتعاون يهدف إلى زيادة السلطة السياسية لكل دولة من خلال الاستفادة من الثقل الاقتصادي للاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية. ولعل إصرار الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات اقتصادية على نظام طهران لمدة تربو عن الست سنوات إنما يؤكد إصرار الاتحاد على إنهاء هذا الملف بشكل كامل خصوصا في ضوء التقرير الصادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي رقم -22 والصادر في 7-10-2015 الذي يشير إلى أن التاريخ النووي لإيران قد بدأ في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي رغبة من الشاه محمد رضا بهلوي في التزود ببرنامج نووي خاصة أن عائدات بلاده النفطية تسمح بتمويله وهو البرنامج الذي أُعلن رسمياً عن طبيعته السلمية. ولكن رغم توقيع إيران على اتفاقية منع انتشار السلاح النووي في 1968 والتصديق عليها عام 1970 فإن المجتمع الغربي كان يخشى من عدم التزام إيران في ظل رغبتها في الحصول على السلاح النووي.
وفيما يتعلق بموقف الدول الثلاث، فكان يتأسس على احترام المبادئ التي حددتها القوى العظمى وقت استئناف المفاوضات في 2013 والتي كانت تطالب بضمانات قوية تمنع إيران من التزود بالسلاح النووي.
وإن الاتفاق النووي الذي تم التوقيع عليه بين المجتمع الدولي من جانب وإيران من جانب آخر في 14 من يوليو (تموز) 2015 إنما يمثل ثمار عمل تفاوضي جاد وشاق يتجاوز أمده 21 شهرا، ويمثل كذلك ثمرة نجاح للدبلوماسية الأوروبية، وهو تحرك دبلوماسي رفيع شكلاً وموضوعاً. ويعود ذلك لعدة أسباب رئيسية: أولها
الفلسفة التفاوضية الأوروبية، وكذلك السياسة الأوروبية المزدوجة التي تبناها الاتحاد الأوروبي تجاه إيران، وهي السياسة المسماة بسياسة «العصا والجزرة»، والتي انتصرت على خيار التدخل العسكري الذي كان يمثل موضع تفكير في توقيت معين من قبل بعض دول الأعضاء بحلف الناتو، ومن قبل بعض دول المنطقة مثل إسرائيل وغيرها.
وفى وسط هذا المناخ المحتدم والمصالح المتشابكة، عملت أوروبا دائما على خلق حالة الحوار البناء مع إيران، وهو حوار تعرض لموجات كثيرة ارتفاعا بين 2003 - 2004 و2013 - 2015 وانخفاضا ما بين الفترات سالفة الذكر، وهو ما صعب من الدور التفاوضي. ولكن نجحت أوروبا عموماً في التوصل إلى حوار بناء يتسم بالفاعلية.
وانتهج الاتحاد الأوروبي سياسة ذكية ذات وجهين: الأول تفاوضي والآخر عقابي. فلم يكتف الاتحاد بتوجيه وتنفيذ عقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولكنه سعى نحو فرض عقوبات ذاتية على طهران بالتنسيق مع الجانب الأميركي، وهي عقوبات تم تعزيزها بداية من 2010 - 2012 وكان لها تأثيرها المباشر ليس فقط على الاقتصاد الإيراني فحسب ولكن أيضا على دوائر السلطة هناك.
ونجحت أوروبا، من ناحية أخرى، في تأكيد وتعزيز موقفها كوسيط نزيه بين الشركاء الدوليين الأساسيين (روسيا والصين) من جانب، والأميركيون من جانب آخر في محاولة منها لإيجاد مكانة مناسبة لها في الملف التفاوضي مع إيران مع احترام التوازنات الجغرافية الأخرى في المنطقة. وكانت أوروبا تسعى من خلال موقفها هذا إلى الحفاظ على النسيج المجتمعي للمنطقة التي تشهد حالة من عدم التوازن على خلفية الوضع في العراق. هذا بالإضافة إلى الأزمة الأوكرانية التي بدأت هي الأخرى في فرض نفسها على الساحة الدولية منذ 2014 وهي الأزمة التي فرضت نفسها كذلك على عدد من التوازنات في ملفات دولية أخرى مهمة داخل وخارج نطاقها الإقليمي.
ومن الأسباب المهمة الأخرى في نجاح الحوار، تمتع الفريق التفاوضي الأوروبي بتركيبة متنوعة ومهنية إلى حد كبير يغلب عليه الطابع الموضوعي، بعيداً عن المصالح الخاصة لكل دولة من دول الاتحاد. فقد ضم الفريق التفاوضي الأوروبي أعضاء من ألمانيا، القوية اقتصاديا، وفرنسا وبريطانيا، القوتين النوويتين، أي أننا أمام فريق مهني ومتنوع هذا بالإضافة إلى الدور الفاعل للسيدة فيدريكا موغيريني، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي. وكان هناك دور فاعل آخر لخافيير سولانا، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي الأسبق، الذي كان حاضرا وبقوة هذه المفاوضات عبر الهاتف نظرا لقوة علاقته بالجانب الإيراني.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.