في 28 شارع البستان بباب اللوق بوسط القاهرة، لا بد أن تستوقفك لافتة كبيرة تحمل اسم كامل كيلاني، رائد أدب الطفل في العالم العربي، كتب عليها: «أول مؤسسة عربية لتثقيف الطفل». يعود تاريخ تلك المكتبة إلى عام 1948، وهي أول مكتبة متخصصة في أدب الأطفال. وكانت تحتضن ندوة «كيلاني» «الدبية» كل سبت من بين حضورها العقاد، وطه حسين، والحبيب بورقيبة، وحبيب جاماتي، وشكيب أرسلان، وحاكم الشارقة سلطان القاسمي، وغيرهم.
ولد كامل كيلاني في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1897، وتوفي في الشهر نفسه أيضا يوم 10 أكتوبر عام 1959. هذا الشهر تمر الذكرى الـ120 على ميلاد رائد أدب الطفل كامل كيلاني، الذي ترك للأطفال العرب إرثا لا يستهان به وتزداد قيمته يوما بعد يوم. في شهر أكتوبر من كل عام تحيي أسرة الأديب الراحل كامل كيلاني ذكراه، في ظل غياب الاحتفاء الرسمي به، وبما قدمه للأدب والثقافة العربية من إسهامات في الأدب والتاريخ والنقد والتحقيق العلمي، وما تركه من كنوز القصص العربية والمترجمات عن الأدب العالمي.
وصفه أمير الشعراء أحمد شوقي: «الأستاذ (كيلاني) كعقرب الثواني: قصير، ولكنه سريع الخطى، منتج، يأتي بدقائق الأمور.»... «الشرق الأوسط» التقت المهندس أمين كيلاني نجل «كيلاني» في مكتبته بوسط القاهرة التي تعج بعشرات القصص التي تركها «كيلاني» لأجيال حول العالم تعلمهم فنون اللغة العربية وجمالياتها. تضم أرفف المكتبة قصصا فكاهية وقصصا من «ألف ليلة وليلة»، وسلسلة أساطير العالم، جمع فيها أروع القصص من الأدب اليوناني والهندي والإنجليزي، وسلسلة القصص الهندية، وقصص شكسبير التي قدمها بشكل مبسط للأطفال، وقصصا عربية منها: حي بن يقظان، وابن جبير في مصر والحجاز، فضلا عن سلسلة القصص العالمية، وقصص تمثيلية منها «الملك النجار» التي يمكن للطفل أن يقوم بأدائها مسرحياً، ولم يغفل القصص الفكاهية التي تجذب الأطفال للقراءة والمطالعة، فقدم ما يزيد على ألف قصة، فضلا عن القصص المترجمة.
يقول أمين كيلاني: «كان أول من فكر في جمع العرب من خلال معرفتهم بجمال اللغة العربية وتاريخهم الأدبي، في ندوته الأسبوعية التي كانت بمثابة (جامعة دول عربية) كان يحضرها عظماء من الشام، ومن جميع أنحاء العالم العربي، والكثير من المستعربين الأجانب أيضا. تأسست هذه الندوة عام 1908، وكان اسمها (نادي كيلاني للطفل)، وفقاً لمحرر مجلة (المدينة المنورة) في 17 أكتوبر 1952، أسسها كيلاني حينما كان طفلا وازدهرت بنخبة من علماء الأزهر، وما زالت الندوة تنمو وتزدهر حتى اكتملت في 1918... ولا يكاد يصل إلى مصر مستشرق أو مسلم من باكستان أو الهند أو إندونيسيا أو أي جهة كانت إلا ويزور هذه الندوة». من كبار المستشرقين الذين زاروها «كارلو نالينو» رئيس المجمع العلمي في روما، وعضو المجمع اللغوي المصري، وعبد الكريم جرمانوس النمساوي. يستكمل المحرر في وصف ومدح ندوة «كيلاني» قائلاً: «أعتقد أن نجاح ندوة كيلاني يرجع إلى عبقريته، وخلقه الرفيع الممتاز، وإلى وفائه وإخلاصه ونبل أهدافه، كما يرجع إلى غزارة علمه، وسعه آفاقه الأدبية والتربوية؛ فقد درس أدب العرب واختلط بدمه، ودرس أدب الإنجليز، وأدب الفرنسيين، وأتقن هذه اللغات الثلاث وترجم منها وإليها... كل هذه العناصر ساعدته على النجاح، وأظنه لم يفشل في حياته إلا في معركة واحدة؛ هي معركة الدنيا والمال، فهو في هذه المعركة فاشل وفاشل... ولكنه لا يقيم لفشله هذا وزنا». ثم يطالب المحرر علي ماهر باشا رئيس الوزراء آنذاك أن يخصص مبنى كبيرا لندوة كيلاني التي يليق بها مبنى أنيق على النيل.
كانت ندوة كيلاني ملاذاً للساسة والأدباء، منهم: أحمد شوقي، وطه حسين، وعباس العقاد والحبيب بورقيبة، ويوسف العظمة، وشكيب أرسلان، والمفتي أمين الحسيني، وخليل مطران، وفارس الخوري، ومن فلسطين وصفي التل، والبشير الإبراهيمي، ومن السودان السيد التعايشي، وحاكم الشارقة الحالي سمو الشيخ سلطان القاسمي، والكاتب الصحافي السعودي عثمان حافظ، وأستاذ الخط العربي سيد إبراهيم، ومحافظ القاهرة السابق فؤاد شيرين؛ هكذا يعدد «أمين» الذين تأثروا أيما تأثر باتساع ثقافة كامل كيلاني. ويشير إلى مكان خلف المكتبة الحالية: «كانت تعقد في مكان مخصص بجوار المكتبة لمدة 35 سنة حتى وفاته، ولم يكن يتخلف عنها أبداً كل يوم سبت، وكان يقول دائماً: «ما فرقته السياسة، يجمعه الأدب».
يستشهد «أمين» بكتاب «كامل كيلاني في مرآة التاريخ» الذي جمعه شقيقه «رشاد»، أكبر أبناء كيلاني الذي جمع كل ما كتب عن ندوة كيلاني من مقالات أو ما كان يدور فيها في هذا الكتاب الضخم. في القسم الخاص بندوة كيلاني، كتب عباس خضر مقالا نشر في مجلة الرسالة عام 1950 يقول فيه: «في مكتبة (كيلاني) ينتدى - يوم السبت من كل أسبوع - جماعة أكثرهم من المشتغلين بالشؤون السياسية، وهم مع ذلك لا يتحدثون في السياسة، كأنهم جاءوا إلى هذه الندوة ليريحوا عقولهم من ذلك العناء؛ فلا تسمع إلا طرفة من هذا، أو ملحة من ذاك».
فيما كتب رائد الصحافة السعودية عثمان حافظ مقالا في مجلة «المدينة المنورة» عام 1952 بعنوان «البحتري في ندوة كيلاني»: «لم تكن ندوة كيلاني إلا فتنة وسحرا من سحر مصر... لقد كتبت معجبا بهذه الندوة منذ رحلتي الأولى لمصر قبل نحو 15 عاما، وكان من أول أهدافي في رحلتي الثانية هذه زيارة هذه الندوة؛ للاستفادة من معين فيضها الذي لا ينضب، فقد وجدت فيها الأدب الرفيع الجم، والشعر الحي الجزل، والنكتة المصرية النادرة».
يستطرد «أمين» مبحرا بنا إلى عالم «كيلاني» الذي ارتبطنا باسمه صغارا حينما تعلمنا من قصصه ألوان الفكر وحقائق الحياة وبناء الخيال، فيقول: «تعلمنا من والدي أن العلم لا يباع» نشأنا نحب العلم ولا نتاجر به، نحن نبيع بسعر الورق فقط، نود أن يتعلم الفقير كما يتاح للغني، وهو مبدأ وضعه كيلاني واستمر عليه أبناؤه، رسالته كانت اللغة العربية لأنها مدخل القرآن الكريم والدين الإسلامي والقيم التربوية والفكر المعتدل.
يقول بحماس: «لا يمكن أن يقرأ أحد كامل كيلاني ويصبح إرهابيا، وهو الوحيد الذي توجد كتبه في الكنائس والجوامع، لأنها تحض على مكارم الأخلاق». يرفض أمين كيلاني شراكات مع تجار غير متخصصين في مجال النشر، وهو لا يطبع طبعات جديدة من أعمال كيلاني. يقول: «الحاج رشاد أخي رحمه الله أسس دار نشر أخرى (دار سبيل الله) كان الهدف منها بيع الكتب الدينية بأسعار التكلفة فقط، لأنه علم ينتفع به. كان أخي يتمنى أن يجعل الدور العلوي من المكتبة مكتبة مفتوحة للقراء، لكنه رحل قبل أن يتم مشروعه».
تصفح أي عمل من أعمال كيلاني سوف يثير دهشتك من اهتمامه باللغة العربية، وتشكيل كل حرف من حروف كتبه وقصصه، والأكثر هو حرصه على إلحاق المرادف لكل كلمة بين قوسين؛ ليعلم الأطفال بشكل سهل المترادفات العربية، والمعاني الكامنة فيها.
ويروي «أمين»: في عام 1958، طلب منه وزير التعليم آنذاك كمال الدين حسين، وعضو مجلس قيادة الثورة، وأخبره أن أعماله سيتم تدريسها في المدارس بتقرير كتاب «حبيب الشعب» على طلاب السنة الخامسة، وقال له: «نحن نثني على جهودك». كان ذلك بمثابة أكبر تكريم لأبي قبل وفاته بعام واحد. ويضيف: «كامل كيلاني وصاحب دار سندباد سعيد العريان هما من أصحاب فكرة وجود مكتبات في المدارس وأهمية وجود قاعة للمطالعة، وبالفعل وقتها أسست في المدارس المكتبات أو (قاعة الدرس). وقررت (الأمير المسحور) على الصف الثالث الإعدادي، و(بساط الريح) على أولى إعدادي، وكتاب (علاء الدين والمصباح العجيب).
ويؤكد: «كانت قضيته إثبات أن الأدب العربي هو أبو الآداب العالمية»، فمثلا كان يقول: «في كل لغة (جحا)، ولكن ثبت بالبحث العلمي أن (حجا العربي هو أبو الجحاوات)».
في ذكرى ميلاده الـ120...«الشرق الأوسط» تتجول في مكتبة كامل كيلاني
ندوة رائد أدب الطفل الأسبوعية كان يحضرها شوقي والعقاد وطه حسين وعثمان حافظ وبورقيبة
في ذكرى ميلاده الـ120...«الشرق الأوسط» تتجول في مكتبة كامل كيلاني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة