هما زوجان أميركيان يهويان جمع الآثار والتحف القديمة وشاءت الصدف أن يعرضا منحوتة يملكانها في «متحف متروبوليتان» الأميركي على سبيل الإعارة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يرفع من قيمتها المادية والأثرية في حال قررا بيعها.
إلا أن حساب الحقل لا ينطبق على حساب البيدر أحيانا كثيرة، وهو ما حصل بالفعل مع الزوجين اللذين تفاجآ باتصال من المتحف المذكور يعلمهما بأن هذه التحفة وتدعى «رأس الثور»، ستعود إلى صاحبها الأصلي ألا وهو «متحف بيروت الوطني».
«هي قصة غريبة، وما استطاع القيام به وزير الثقافة دكتور غطاس خوري، هو إنجاز بحد ذاته، وقد نستطيع من خلال هذه المنحوتة أن نتوصّل إلى أخرى مفقودة من المكان نفسه». تقول آن ماري عفيش، مديرة متحف بيروت الوطني في حديث لـ«الشرق الأوسط».
تعدّ تحفة «رأس الثور» واحدة من بين 2000 تحفة أثرية اكتشفت في معبد أشمون الفينيقي في صيدا، خلال أعمال تنقيب كانت تقوم بها وزارة الثقافة في لبنان (عام 1967). وفي أواخر السبعينات خلال الحرب اللبنانية، وخوفاً من سرقتها أو تلفها نُقلت إلى مستودع يتألف من غرف تحت الأرض يقع بالقرب من قلعة جبيل الأثرية، وذلك بمبادرة من المدير العام للآثار في حينها موريس شهاب. لكن في خضم الحرب تحديداً في عام 1981 تعرضت هذه الغرف للسرقة واختفت منها نحو 600 تحفة ومنحوتة، من بينها «رأس الثور». وتمثل هذه القطعة الأثرية المصنوعة من الرخام، واحدة من آلهة الشفاء لدى الفينيقيين، الذين كانوا يقصدونها مع أطفالهم وأفراد عائلاتهم طلبا للشفاء من مرض ما في «بستان الشيخ» الواقع في معبد أشمون.
وتتألف باقي القطع الـ600 المفقودة من المكان نفسه من تماثيل نصفية وأخرى كاملة لأولاد الفينيقيين. وكانت المنحوتة المذكورة موضوعة على عمود أثري كـ«تاج عمود» تعرف بـ(chapiteau) في عالم الآثار بعد أن فقدت قطعة من ملامح وجهه.
وفي تفاصيل قضية استرجاعها، تروي آن ماري عفيش بأن منظمة اليونيسكو عممت في عام 1970، قراراً يوجب على جميع المتاحف في العالم التقيد باتفاقية أخلاقية تقضي بأن تُعلم بعضها في حال ساورتها الشكوك بشأن قطعة أثرية مسروقة، وذلك في مبادرة من منظمة اليونيسكو لحماية آثار كل بلد في حال حصول أي نزاع دولي على أن تُعاد القطعة إلى مصدرها الأصلي.
وفي عام 2016، تلقى المتحف الوطني في بيروت، وبموجب هذا الاتفاق من المتحف الأميركي المذكور، كتابا يُعلمهم فيه بشكه في وجود قطعة أثرية لديه عن طريق الإعارة، قد تعود ملكيتها إلى لبنان؛ كون تاريخها يعود إلى عصر الفينيقيين، وختم مدير المتحف رسالته بتوجيهه إلى الجهة اللبنانية سؤالا واضحا يقول: «هل يا ترى هذه القطعة الأثرية تعود إليكم؟».
وبعد أن اطلع الخبراء اللبنانيون على صورة المنحوتة تعرفوا إليها مباشرة وتأكدوا منها كون المتحف الوطني يملك لائحة مفصلة عن القطع الأثرية المفقودة من لبنان والموثقة بواسطة بيانات تعرف عنها. وهي كناية عن بطاقة هوية تحمل اسمها وتاريخ ومكان اكتشافها وقياساتها ومرفقة مع صورة فوتوغرافية وباقي المعلومات عنها. أما الوثيقة التي ساهمت أيضا في تأكيد ملكية لبنان لها فهو اكتشاف وجود محضر شرطة حرر في عام 1981 يعلِم عن حادثة سرقتها من مستودعات جبيل، حيث كان يتم الاحتفاظ بها إلى جانب 599 قطعة أثرية أخرى.
«هذه الرسالة تلقيناها في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2016 عندما التقيت بمدير متحف متروبوليتان في نيويورك، أثناء مشاركتي في مؤتمر للآثار عقد في إمارة أبوظبي، فما كان من وزير الثقافة غطاس خوري إلا أن اتصل بالسفارة الأميركية في بيروت يخبرها بالمعلومات التي لديه؛ مما أسفر عن قيام تعاون بينهما وعن تعيين مكتب المدعي العام في مقاطعة نيويورك لتسلم القضية»، تروي عفيش في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»، وتضيف: «وبناءً عليه وافق مكتب كليري غوتليب القانوني على تمثيل الوزارة دون مقابل في الدعاوى المدنية المتعلقة في هذه القضية، وذلك إثر رفض الزوجين الأميركيين إعادة المنحوتة إلينا، وبعد أن رفعا دعوى قضائية ضدنا مبررين امتلاكهما لها رسميا وفق ما دفعاه مقابل شرائها وهو مبلغ 1.2 مليون».
واكتشف مكتب المدعي العام الأميركي خلال التحقيقات أن هناك 6 أشخاص متورطين في هذه القضية، ويؤلفون مجموعة التجار الذين تناوبوا على شرائها إلى حين امتلاكها من قبل الزوجين الأميركيين.
صادر مكتب المدعي العام الأميركي القطعة في يوليو (تموز) الماضي وذلك بناءً على حكم قضائي صادر عن المحكمة. وسيتم عرضها فيما بعد في مقر السفارة اللبنانية في أميركا، حيث سيتسنى للجالية اللبنانية هناك مشاهدة «رأس الثور» عن قرب وليجري إرساله بعدها إلى لبنان في غضون 15 يوماً.
واللافت، أن هذه القضية من شأنها أن تساهم في إعادة منحوتة أخرى تعود للمجموعة نفسها «من معبد أشمون» تعرفت عليها مديرية الآثار في متحف بيروت عندما أرسل إليها مكتب الادعاء الأميركي أحد أعداد مجلة «هاوس اند غاردن» الأميركية، وتضمن صورا عن منزل الزوجين الأميركيين والتحف الموجودة لديهما. وظهرت بينها قطعة أثرية وهي كناية عن جزع تمثال لصبي صغير فينيقي.
«ستتعاون الوزارة مع مكتب المدعي العام لإثبات سرقة هذه القطعة الأثرية من لبنان على أمل استرجاعها قريبا، وعلى أن تدرج في القضية نفسها»، بحسب ما تخبرنا مديرة المتحف آن ماري عفيش. ومن المتوقع أن يعقد وزير الثقافة غطاس خوري مؤتمرا صحافيا يعلن فيه عن تفاصيل عملية استرجاع «رأس الثور» بعد أن يتم استقباله رسميا في مطار بيروت الدولي.
«رأس الثور» يعود إلى لبنان بعد سرقته منذ عام 1981
عرض في «متحف متروبوليتان» بالاستعارة فانكشفت قصته
«رأس الثور» يعود إلى لبنان بعد سرقته منذ عام 1981
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة