إذا كان المصمم كارل لاغرفيلد قد أكد، صباح آخر يوم من أسبوع الموضة بباريس، أن «الماء هو الأساس، ومن دونه لا تكون حياة»، فإن عاشقاته أجبنه بأن الحياة لا تكتمل من دون ماء، ولا الموضة من دون إبداعاته. فمنذ أن التحق بـ«شانيل» في عام 1983، وهو يعطي الأناقة معنى خاصاً لا يعترف بزمن، لأن كل قطعة من بنات أفكاره تخاصم الصرعات. وأول ما تطأ الأقدام «لوغران باليه»، وتتراءى للنظر ديكوراته عن بُعد، حتى تتبادر إلى الذهن أغنية عبد الحليم حافظ «الماء والخضرة والوجه الحسن»؛ فهي تُلخص اللحظة شكلاً ومضموناً. وقد أخذ «لوغران باليه» شكل غابة استوائية تتخللها 6 شلالات، يصل ارتفاعها إلى 10 أمتار، ونباتات متشرنقة من الجوانب، وأشجار وارفة تترامى على طول المنصة؛ منظر يشد الأنفاس ويعطي لعروض الأزياء بُعداً ترفيهياً تُقدر «شانيل» أهميته، بدليل أننا أصبحنا ننتظر ديكورات الدار بشغف وترقب، ونتساءل في كل مرة إلى أي وجهة ستأخذنا لكي نعيش تجربة فريدة.
ما انتبهت إليه الدار أن مدة معظم العروض لا تتعدى الـ20 دقيقة، لهذا تحتاج إلى عنصر إبهار يُبقي على الحماس من جهة، ويخلق صورة ترسخ في الذاكرة طويلاً بعد أن تتداولها شبكات التواصل الاجتماعي من جهة ثانية. وبما أن الصورة هي أهم أداة بالنسبة لهذه الشبكات، فإنها يجب أن تكون درامية حتى تُشعل الرغبة في الشراء. ولحسن الحظ، أن هذا التفاني أو التفنن في تصميم الديكور لا يأتي على حساب الأزياء. فمع أول نغمة صدحت إيذاناً ببدء العرض، خرجت العارضات من باب على شكل مدخل كهف عميق، وهن يتهادين في أزياء كان لها مفعول الشمس التي سطعت في اليوم الأخير من الأسبوع، بعد أيام من الطقس المتقلب. كل ما فيها كان مفعماً بالتفاؤل، وكأن المصمم حقنها بجرعة سعادة قوية. صحيح أن دقات القلب لم تتسارع بالقوة نفسها لسبب بسيط، وهو أننا تعودنا من كارل لاغرفيلد على تقديم ما يثير الحلم؛ أي كنا محضرين نفسياً له، ولم تختلف وصفته التي أدمنا عليها هنا.
وصفة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها أنيقة تجمع السهل بالممتنع، انسابت فيها الأزياء على الجسم انسياب الماء من الشلالات. ومن الأقمشة الخفيفة المتباينة بين التويد والموسلين، بل وحتى البلاستيك، إلى الألوان التي لعبت على خضرة الطبيعة وزرقة الماء، كانت القطع تزيد بريقاً كلما انعكست عليها أشعة الشمس. وكانت تُخلف شعوراً بأننا رأيناها سابقاً، وفي الوقت ذاته بأننا نراها لأول مرة، نظراً لروحها الشبابية التي رسختها مشاركة عارضات في عمر الزهور، من مثيلات كايا جربر ابنة العارضة الشهيرة سيندي كروفورد التي لا يتعدى عمرها 16 عاماً، والمغربية الشابة نورا عتال، وغيرهما ممن ينتمين إلى جيل تتودد له الموضة في السنوات الأخيرة.
ورغم هذه الصورة الشبابية التي عززتها العارضات والإخراج، فإننا بالتمعن في كل قطعة، نشعر أن كارل لاغرفيلد بذكائه وحنكته قدم في الحقيقة تشكيلة تخاطب كل الأعمار. فكل قطعة فيها تتحدى الزمن، بما في ذلك المعاطف البلاستيكية التي زينتها حواشٍ فضية. وكانت هذه المعاطف بمثابة ستارة تقي الفساتين من عوامل الطقس وكأنها قطع نفيسة. كما كانت، إلى جانب أقراط أذن ضخمة على شكل حبات مطر وأحذية عالية الرقبة، تتقيد بالسيناريو المكتوب عن الماء والالتحام مع الطبيعة والأرض. وبما أن الإكسسوارات والعطور أصبحت في أهمية الأزياء عموماً، فإننا من المستحيل تجاهل حقيبة «غابرييل» التي أعاد المصمم صياغتها لتأتي مقاومة للماء هذه المرة، ولا عطر «غابرييل» الذي تم توزيعه على الضيوف.
فالدار على ما يبدو تريد أن ترسخ في أذهاننا اسم غابرييل، وتريده أن يكون جسراً يأخذها إلى مرحلة جديدة، أو بمعنى أصح أن يربطها بشريحة الشابات. فإلى عهد قريب، كان الاسم المتداول هو كوكو، فيما بقي اسمها الحقيقي غير معروف للكل. الآن، وفي عصر الإنستغرام، وتزايد أهمية الزبونات الشابات، بات مُهماً التذكير باسم المؤسسة، كما هو مكتوب في عقد الولادة. فغابرييل، على العكس من كوكو، صبية مثل غالبيتهن، بريئة وحالمة. كانت أيضاً طموحة تتمتع بنظرة واضحة تواقة للحرية والانعتاق من القيود التي كانت تكبل بنات جنسها، من دون أن تتنازل عن مفهوم الأنوثة الراقية. وهذا ما يفهمه كارل لاغرفيلد ويبيعه لنا بسهولة.
«شانيل»... الماء والخضرة والشكل الحسن
«شانيل»... الماء والخضرة والشكل الحسن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة