«كان ياما كان في قديم الزمان» هي العبارة التي لا ننفك نرددها في كل مرة نرغب فيها في حكاية قصة لأطفالنا. هذه العبارة التي حفرت في ذاكرتنا منذ نعومة أظافرنا تم تحديثها اليوم، لتصبح «القصة وما فيها»، أو «رح خبركن هالقصة»، ولتكر إثرها مجريات حكاية من حكايات العصر.
و«القصة وما فيها» هي أن الفضفضة والبوح بما يدور في أعماقنا عادتان قلما صرنا نمارسهما وجهاً لوجه مع أصدقائنا، أو مع أحد من أفراد عائلتنا، وذلك في ظل المراسلات والأحاديث الإلكترونية التي تجتاح معظم أوقاتنا. وانطلاقاً من تقليد معروف في لبنان منذ القدم، يرتكز على حكاية القصص للأولاد قبل النوم وللكبار، من خلال شخصية «الحكواتي»، في مواسم مختلفة من السنة، أخذت حركات فردية لبنانية على عاتقها إعادته إلى أيامنا، عن طريق عقد اجتماعات تدعو فيها من يرغب في مشاركة الآخرين بحكاية قصة على مسمعهم، فيروي خلالها حكاية حفرت في ذاكرته، أو حادثة لم ينسها. هذه الظاهرة التي يعود تاريخها إلى نحو 3 سنوات، تشق اليوم طريقها بين الشباب اللبناني، كوسيلة اتصال وتحاور فعالتين يقيمونها مع الآخر.
ومن بين تلك التجمعات واحدة أطلقتها ديما مخايل متى، تحت عنوان «كليفانغر»، ويجري خلالها تحديد موضوع معين (حلم، وبحر، وحب، وصداقة، وغيرها)، يروي على هامشه أحد المشاركين في التجمع قصة نابعة من تجربة شخصية تدور حوله. «هي عبارة عن طريقة لتوطيد علاقة الإنسان بالآخر، بعد تقلصها وانعزال الناس عن بعضهم تدريجياً»، توضح ديما، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، التي حملت أطروحتها لشهادة الماجستير في أميركا موضوع «علم سرد القصص»، وتضيف: «المشاركون في هذه التجمعات يشعرون بالراحة والفرح عندما يقفون أمام جمهور لأول مرة، فيروون قصة عايشوها عن قرب وهم متحمسون لرؤية ردود فعل مستمعيها، فما من أحد منا لم يعش شعور الفرح لحكاية قصة على مسمعه في طفولته، عندما كأن أهالينا يقصون علينا الحكايات لنخلد إلى النوم سريعاً»، وتتابع: «لقد وجدت فيها طريقة جذابة لمساعدة الناس، وحثهم على التحاور».
وديما التي تدرس الإنجليزية في «جامعة البلمند»، وتمارس التمثيل المسرحي (مع المخرجة لينا أبيض)، تعد حكاية القصص أمراً يلزمه أسلوب فني لجذب الناس، وعدم وقوعهم في الملل: «ليس كل منا مخولاً أن يروي قصة، فهي بمثابة فن بحد ذاته، يلزمه ثقافة معينة نتزود بها مع الخبرة، وأحياناً بالفطرة».
أجواء حماسية جميلة تخيم على هذه اللقاءات، تلونها الفكاهة حيناً، ويشوبها التأثر مرات أخرى، إلا أنها غالباً ما تنتهي بموجة تصفيق عارمة، لتشجيع الراوي ودفعه إلى إعادة الكرة مرة أخرى. وتنتشر هذه الظاهرة منذ فترة قصيرة في أميركا، ويعد البرنامج الإذاعي «The Moth» أشهرها على الإطلاق، حيث يتابعه الملايين من الناس فيها.
ومدة حكاية القصة لا تتجاوز الدقائق العشر، وعادة ما يبلغ عدد المشاركين نحو 5 أشخاص في اللقاء الواحد، بحيث لا تتعدى فترة العروض كاملة الـ90 دقيقة، كما أشارت ديما مخايل متى، التي جاءتها الفكرة إثر ملاحظاتها غياب عادة الإصغاء أيضاً من قبل الناس لبعضهم بعضاً: «لقد صار من النادر وجود شخص يصغي إلينا، ويهتم بما نقوله، فكل منا يريد أن يقول كلمته ويمشي، من دون الأخذ بعين الاعتبار أهمية الإصغاء لبعضنا».
ولا تتقيد ديما في طبيعة الأماكن التي تعقد فيها تلك التجمعات: «أحياناً تجري في متحف سرسق، وأحياناً أخرى داخل مركز فني، فالمكان لا يهمنا قدر العنصر البشري المشارك الذي يصل أحياناً إلى نحو 400 شخص، بينهم أجانب ولبنانيون»، وتختم: «هناك أساليب عدة يمكننا اتباعها أثناء حكاية قصة ما. وفي إحدى المرات، روى لنا أحدهم قصة مؤثرة من خلال رقصة تعبيرية قدمها لنا مباشرة، من دون أن يتكلم».
وكما «كليفانغر»، تقوم «حكايا» بالمهمة نفسها، تحت عنوان «القصص تجمعنا». وعادة ما تعقد لقاءاتها بالتعاون مع مدارس وجامعات ومؤسسات اجتماعية، فتشارك معها في حكاية قصص إنسانية، وأخرى اجتماعية، من وحي تجارب أفرادها.
ومع «حكايا»، تستمع إلى روايات تحكي عن تجربة الشاب أحمد، من باب التبانة، وكيفية اتخاذه قرار تقبل الآخر في جبل محسن، أو قصة غنى بربير التي رغبت في تعريف الآخرين بمدينتها صيدا، وتطورها عبر التاريخ.
«تتراوح أعمار المشاركين بين 18 و50 سنة، وأحياناً يقصدنا آخرون متقدمون بالعمر، بهدف الترويح عن أنفسهم من خلال الإصغاء إلى قصص الآخرين»، تقول دانا بلوط، أحد الأفراد المؤسسين لهذا التجمع، وعددهم أربعة.
وتعمل دانا في مجال الصحافة، وتجد في هذه اللقاءات، التي تستضيف مرات كثيرة أطفالاً سوريين، نافذة إنسانية ترتبط بتراث لبنان الثقافي، وتوضح: «كلنا نعرف أن الحكواتي شخصية شهيرة في لبنان نلاحظ اندثارها يوماً بعد يوم، ولذلك بدأنا منذ أكثر من سنة نعقد هذه اللقاءات لإعادته إلى أرض الواقع من ناحية، وللتمرن على رواية قصص جميلة، كوننا اعتدنا على حكاية قصص الحروب والمعاناة التي عشناها في بلادنا العربية».
وتروي دانا أن والدتها فاجأتها في إحدى الجلسات المعقودة باعتلائها المنصة، حيث راحت تروي مدى شوقها لرؤية أولادها، والنظر في عيونهم، بعدما صار الحوار معهم يقتصر على الجهاز المحمول، الأمر الذي ترك لديها تأثراً كبيراً. «أعتقد أننا جميعنا نحب أن نروي قصصاً عشناها، ولذلك نعقد جلسات تدريب لتعليم الطريقة الصحيحة لنروي قصة، وهذه الجلسات تسبق عادة تلك التي نحددها للاستماع إلى قصص الناس»، تقول دانا في سياق حديثها.
وحسب الاختصاصي الاجتماعي جوزيف قاعي، فإن هذه اللقاءات من شأنها أن تساهم في جمع الناس، وإعادة النظر في العلاقات الاجتماعية التي بتنا نفتقدها يوماً بعد يوم.
ويضيف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «أرى في هذه النزعة وسيلة مرادفة لوسائل التواصل الاجتماعية، ولكن على أرض الواقع. فهذا العالم الافتراضي الذي نعيش فيه اليوم، ويسود مختلف تصرفاتنا، كان من الضروري أن تنشأ مقابله وسائل تعزز مهمته، ولكن من على المقلب الآخر»، وتابع: «تعزز هذه اللقاءات لغة التحاور وجهاً لوجه بين الناس، وتولد إحساساً بالحماس لدى الراوي بأنه على موعد مع مجموعة من الأشخاص ستصغي إلى ما يقوله من باب الاهتمام، وليس من باب الواجب»، وختم: «هناك جمعيات كثيرة بدأت تستحدث حركات اجتماعية تساهم في لم شمل الناس، وأجد في ذلك إيجابية نحن بأمس الحاجة إليها اليوم».
حكاية القصص الواقعية ظاهرة اجتماعية جديدة تشهدها بيروت
تعد واحدة من الوسائل التي تساهم في بناء الحوارات
حكاية القصص الواقعية ظاهرة اجتماعية جديدة تشهدها بيروت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة