تنمية الشعور والاقتناع بأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة وأن اليد السفلى هي السائلة، هو في واقع الأمر تطبيق عملي لأحد مورثات الحكمة التي تثبت الأيام وتثبت نتائج البحوث العلمية، وعلى وجه الخصوص البحوث الطبية منها، أنها حقيقة لا مجال للشك فيها وأن تأثيرات السخاء في العطاء والكرم Generosity تشمل طيفاً واسعاً من أنواع الخير والفائدة للشخص المعطاء.
وضمن عدد يوليو (تموز) الماضي من مجلة «تبادل المعلومات الطبيعي»Nature Communications، عرض الباحثون من جامعة زيوريخ السويسرية نتائج دراستهم التأثيرات البيولوجية الحيوية في دماغ الإنسان لسلوكيات كرم السخاء. وتم في هذه الدراسة إجراء اختبارات دقيقة ومتقدمة لتقييم نوعية نشاط الدماغ آنذاك باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي Functional MRI.
وتعتبر مجلة «تبادل المعلومات الطبيعي» إحدى المجلات العلمية التي تنشر بحوثاً عالية الجودة في علم الأحياء والفيزياء والكيمياء وعلوم الأرض وجميع المجالات العلمية ذات الصلة، وتصدرها «مجموعة نتشر للنشر» والتي من أهمها مجلة «نتشر» Nature العلمية التي تعتبر الأولى من بين جميع المجلات العلمية الأكاديمية في العالم.
وكان عنوان دراسة الباحثين السويسريين «علاقة عصبية بين الكرم والسعادة»، وقال الباحثون في مقدمتها: «تستفيد المجتمعات البشرية من سلوك السخاء لدى أعضائها، مثل التبرع المالي أو القيام بالأعمال التطوعية. إن سلوك السخاء هو سلوك مُكلف لأنه يتطلب استثمار المرء لموارده الذاتية لمصلحة الآخرين. ومع ذلك، لا يزال السلوك السخي شائعاً ويحدث حتى في الحالات التي يكون فيه ردّ فعل المُتلقي غير متناسب مع ذلك الكرم والسخاء، ولهذه الأسباب تفشل النظرية الاقتصادية Economic Theory الشائعة بأذهان الناس في تفسير السلوك السخي».
والبحوث في مجال علم النفس تشير إلى أن الدافع المحتمل للسلوك السخي هو ارتباطه بزيادة الإحساس والشعور بالسعادة، وعلى سبيل المثال، وجدت نتائج عدة دراسات علمية أن الإنفاق على الآخرين يرفع من توقع ارتفاع الشعور بالسعادة لدى الشخص المُنْفق. وأيدت هذه النتيجة الدراسات التجريبية عبر الثقافات والعصور التي تبين أن الذين يُنفقون المال على الآخرين لديهم مستويات أعلى من السعادة مقارنة مع أولئك الذين أُنفقوا ذلك المال على أنفسهم فقط، وهو ما يتوافق مع الفكرة القائلة بأن المشاعر الإيجابية هي التي تدفع إلى التحلي بالسلوك السخي». وأضافوا ذكر سبب إجرائهم الدراسة بالقول: «وعلى الرغم من الأهمية الواضحة لهذا الدافع لسلوكيات السخاء، إلاّ أنه ليس لدينا فهم لميكانيكية مُجريات العمليات العصبية الدماغية التي تربط فيما بين كرم السخاء وبين السعادة، وتحديداً لا تزال غير معروفة تلك الآليات العصبية الدقيقة التي من خلالها يدفع الكرم إلى الشعور بالسعادة».
وبالمراجعة العلمية لهذا الجانب، نلاحظ أن في دراسات التصوير العصبي لم يتم إجراء بحث علمي يربط فيما بين الكرم والسعادة، وعلى وجه التحديد تم سابقاً إجراء دراسة شملت تقييم النشاط الوظيفي والخصائص الهيكلية في البنية بمنطقة الرباط فيما بين الفصّ الصدغي والفصّ الجداري Temporo - Parietal Junction في الدماغ وبين قوة اختيار سلوك الإيثار وسلوك السخاء والتغلب على الشعور بالأنانية. وبالمقابل، وعلى العكس من ذلك، لاحظت نتائج دراسات أخرى أن السعادة بسبب ارتباطها بالمكافأة والمتعة، تُنشّط مناطق الدماغ ذات الصلة بالمكافأة مثل منطقة الجسم المخطط البطنية Ventral Striatum والقشرة المدارية الجبهية Orbitofrontal Cortex.
وفي هذه الدراسة الحديثة، وجد الباحثون السويسريون أن الكرم يشحن الدماغ بالسعادة، وأنه حتى بذل قدر ضئيل من العطاء يحفز حصول تغيرات دماغية تجعل المرء أكثر سعادة، وهو ما علّق عليه الدكتور فليب توبلر، الباحث الرئيسي في الدراسة والمتخصص في علم الاقتصاد العصبي والذي يعمل في مختبرات بحوث الأنظمة العصبية والاجتماعية بجامعة زيوريخ، قائلاً: «النتائج تفيد بأن إنفاق المال على الآخرين بدلاً من الإنفاق على النفس، هو طريق أخرى للسعادة. وأن المثل القديم القائل ما تقدمه سيعود إليك هو مثل صحيح، وأن الإقدام على مساعدة الآخرين والتحلي بالكرم يستفيد المرء منه ويجعله أكثر سعادة».
والواقع أن دراسات «علم الاقتصاد العصبي» Neuroeconomics أفادت كثيراً في السنوات القليلة الماضية في فهم الكثير عن السلوكيات المرتبطة باتخاذ القرار، مثل القدرة على التعامل مع عدة خيارات وبدائل واختيار الأفضل منها، واستخدام منهجيات العلوم العصبية لفهم العلاقة التفاعلية بين السلوك الاقتصادي وآليات عمل الأعصاب في الدماغ. والجانب الاقتصادي في سلوك الكرم يجذبه من جهة حبّ مساعدة الغير والرغبة في رؤيتهم براحة وسعادة كما يجذبه من جهة أخرى التفكير الأناني الذي قد يكون غريزة واضحة لدى الشخص البخيل أو الذي يُغلفه لديه التفكير الاقتصادي بمدى تأثير سلوك السخاء على موارده المالية الخاصة.
ومن جوانب القوة في الدراسة السويسرية الحديثة إجراء مقارنة مستوى الإفادة بالشعور بالسعادة من قبل المشاركين في الدراسة Self - Reported Happiness مع مستوى «نشاط الدماغ المرتبط بالسعادة» عبر استخدام التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي في مناطق ثلاث من الدماغ هي: المنطقة المسؤولة عن الكرم، والمنطقة المسؤولة عن السعادة، والمنطقة المسؤولة عن صنع القرار، ووجد الباحثون أن مستوى النشاط الدماغي المرتبط بالسعادة متوافق مع مستوى الشعور بالسعادة المُبلغ عنها ذاتياً من قبل المشارك في الدراسة، ولم تتم ملاحظة ذلك لدى منْ تحلوا بالأنانية في مساعدة الغير. وأضاف الباحثون: «ومن المثير للاهتمام أن العطاءات الصغيرة أدت إلى زيادة واضحة في السعادة». وعلّقت البروفسورة كيت ياروا، أستاذة «علم نفس المستهلك» Consumer Psychology بجامعة قولدن غيت في سان فرنسيسكو، بالقول: «لست مندهشة من النتائج، المرء سيشعر بسعادة عارمة عندما يُعطي الغير، وتوقعه تأثيرات ذلك على منْ يُنفق عليهم هو جزء من التشويق، إن الكرم يجعلنا ننظر إلى أنفسنا بشكل مختلف وأفضل ونحن نحصل من أنفسنا على دفقة من التقدير للذات كلما كُنّا أسخياء».
- استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]
الكرم والسخاء... سعادة للشخص المعطاء
الكرم والسخاء... سعادة للشخص المعطاء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة